فصل: قال الشنقيطي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وفي بعض الآثار أنه عليه السلام كان لا يتغدى إلا مع ضيف فلم يجد ذات يوم ضيفًا فأخر غداءه فإذا هو بفوج من الملائكة عليهم السلام في صورة البشر فدعاهم إلى الطعام فخيلوا أن بهم جذامًا فقال: الآن وجبت مؤاكلتكم شكرًا لله تعالى على أنه عافاني مما ابتلاكم به، وجوز أبو البقاء كون الجار والمجرور متعلقًا بقوله تعالى: {اجتباه} وهو خلاف الظاهر.
وجعل بعضهم متعلق هذا محذوفًا أي اختاره واصطفاه للنبوة، وأصل الاجتباء الجمع على طريق الاصطفاء، ويطلق على تخصيص الله تعالى العبد بفيض إلهي يتحصل له منه أنواع من النعم بلا سعي منه ويكون للأنبياء عليهم السلام ومن يقاربهم {يَشَاء إلى صراط مُّسْتَقِيمٍ} موصل إليه تعالى وهو ملة الإسلام وليست نتيجة هذه الهداية كما في إرشاد العقل السليم مجرد اهتدائه عليه السلام بل مع إرشاد الخلق أيضًا إلى ذلك والدعوة إليه بمعنوة قرينة الاجتباء.
وجوز بعضهم كون {إلى صراط} متعلقًا باجتباه وهداه على التنازع، والجملة إما حال بتقدير قد على المشهور وإما خبر ثان لإن، وجوز أبو البقاء الاستئناف أيضًا.
{وءاتيناه في الدنيا حَسَنَةً} بأن حببه إلى الناس حتى أن جميع أهل الأديان يتولونه ويثنون عليه عليه السلام حسبما سأل بقوله: {واجعل لّى لِسَانَ صِدْقٍ في الاخرين} [الشعراء: 84]، وروي هذا عن قتادة وغيره، وعن الحسن الحسنة النبوة، وقيل: الأولاد الأبرار على الكبر وقيل: المال يصرفه في وجوه الخير والبر، وقيل: العمر الطويل في السعة والطاعة فحسنة على الأول بمعنى سيرة حسنة وعلى ما بعده عطية أو نعمة حسنة كذا قيل: وجوز في الجميع أن يراد عطية حسنة، والالتفات إلى التكلم لإظهار كمال الاعتناء بشأنه وتفخيم مكانه عليه السلام {وَإِنَّهُ في الآخرة لَمِنَ الصالحين} داخل في عدادهم كائن معهم في الدرجات العلى من الجنة حسبما سأل بقوله: {وَأَلْحِقْنِى بالصالحين} [الشعراء: 83]، وأراد بهم الأنبياء عليهم السلام.
{ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ}.
وهي على ما روي عن قتادة الإسلام المعبر عنه آنفًا بالصراط المستقيم، وفي رواية أخرى عنه أنها جميع شريعته إلا ما أمر صلى الله عليه وسلم بتركه، وفي التفسير الخازني حكاية هذا عن أهل الأصول، وعن ابن عمرو بن العاص أنها مناسك الحج.
وقال الإمام: قال قوم إن النبي صلى الله عليه وسلم كان على ملة إبراهيم وشريعته وليس له شرع متفرد به بل بعث عليه الصلاة والسلام لإحياء شريعة إبراهيم لهذه الآية، فحملوا الملة على الشريعة أصولًا وفروعًا وهو قول ضعيف، والمراد من {مِلَّةِ إبراهيم} التوحيد ونفي الشرك المفهوم من قوله تعالى: {وَمَا كَانَ مِنَ المشركين} فإن قيل: إنه صلى الله عليه وسلم إنما نفى الشرك وأثبت التوحيد للأدلة القطعية فلا يعد ذلك متابعة فيجب حمل الملة على الشرائع التي يصح حصول المتابعة فيها، قلنا: يجوز أن يكون المراد الأمر بمتابعته في كيفية الدعوة إلى التوحيد وهي أن يدعو إليه بطريق الرفق والسهولة وإيراد الدلائل مرة بعد أخرى بأنواع كثيرة على ما هو الطريقة المألوفة في القرآن.اهـ.
وتعقبه أبو حيان بأنه لا يحتاج إليه لأن المعتقد الذي تقتضيه دلائل العقول لا يمتنع أن يوحي ليتضافر المعقول والمنقول على اعتقاده، ألا ترى قوله تعالى: {قُلْ إِنَّمَا يوحى إِلَىَّ أَنَّمَا إلهكم إله واحد} [الأنبياء: 108]. كيف تضمن الوحي بما اقتضاه الدليل العقلي، فلا يمتنع أن يؤمر النبي صلى الله عليه وسلم باتباع ملة إبراهيم عليه السلام بنفي الشرك والتوحيد وإن كان ذلك مما ثبت عنده عليه الصلاة والسلام بالدليل العقلي ليتضافر الدليلان العقلي والنقلي على هذا المطلب الجليل، وآخر بأنه ظاهر في حمل الملة على كيفية الدعوة ولا شك أن ذلك ليس داخلًا في مفهومها فإنها ما شرعه الله تعالى لعباده على لسان الأنبياء عليهم السلام من أمللت الكتاب إذا أمليته وهي الدين بعينه لكن باعتبار الطاعة له، وتحقيقه أن الوضع الإلهي مهما نسب إلى من يؤديه عن الله تعالى يسمى ملة ومهما نسب إلى من يقيمه يسمى دينًا، قال الراغب: الفرق بينها وبين الدين أنها لا تضاف إلا للنبي صلى الله عليه وسلم الذي يسند إليه ولا تكاد توجد مضافة إلى الله تعالى ولا إلى آحاد أمة النبي عليه السلام ولا تستعمل إلا في جملة الشرائع دون آحادها ولا كذلك الدين، وأكثر المفسرين على أن المراد بها هنا أصول الشرائع، ويحمل عليه ما روي عن قتادة أولًا ولا بأس بما روي عنه ثانيًا.
واستدلال بعض الشافعية على وجوب الختان وما كان من شرعه عليه السلام ولم يرد به ناسخ مبني على ذلك كما لا يخفى.
ما روي عن ابن عمرو بن العاص ذكره في البحر والذي أخرجه ابن المنذر والبيهقي في الشعب وجماعة عنه أنه قال: صلى جبريل عليه السلام بإبراهيم الظهر والعصر بعرفات ثم وقف حتى إذا غابت الشمس دفع به ثم صلى المغرب والعشاء بجمع ثم صلى به الفجر كأسرع ما يصلي أحد من المسلمين ثم وقف به حتى إذا كان كأبطأ ما يصلي أحد من المسلمين دفع به ثم رمى الجمرة ثم ذبح وحلق ثم أفاض به إلى البيت فطاف به فقال الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم: {ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتبع مِلَّةَ إبراهيم} ولعل ما ذكر أولًا مأخوذ منه.
وأنت تعلم أنه ليس نصًّا فيه ولا أظن أن أحدًا يوافق على تخصيص ملته عليه السلام بمناسك الحج.
و{إن} تفسيرية أو مصدرية ومر الكلام في وصلها بالأمر، و{ثُمَّ} قيل: للتراخي الزماني لظهور أن أيامه صلى الله عليه وسلم بعد أيامه عليه السلام بكثير، واختار المحققون أنها للتراخي الرتبي لأنه أبلغ وأنسب بالمقام.
قال الزمخشري: إن في {ثُمَّ} هذه إيذانًا بأنه أشرف ما أوتي خليل الله عليه السلام من الكرامة وأجل ما أوتي من النعمة اتباع رسول الله صلى الله عليه وسلم ملته وتعظيمًا لمنزلة نبينا عليه الصلاة والسلام وإجلالًا لمحله، أما الأول فمن دلالة ثم على تباين هذا المؤتي وسائر ما أوتي عليه السلام من الرتب والمآثر، وأما الثاني فمن حيث أن الخليل مع جلالة محله عند الله تعالى أجل رتبته أو أوحي إلى الحبيب اتباع ملته، وفي لفظ {أَوْحَيْنَا} ثم الأمر باتباع الملة لا اتباع إبراهيم عليه السلام ما يدل كما في الكشف على أنه صلى الله عليه وسلم ليس بتابع له بل هو مستقل بالأخذ عمن أخذ إبراهيم عليه السلام عنه {حَنِيفًا} حال من إبراهيم المضاف إليه لما أن المضاف لشدة اتصاله به جرى منه مجرى البعض فعد بذلك من قبيل رأيت وجه هند قائمة.
ونقل ابن عطية عن مكي عدم جواز كونه حالًا منه معللًا ذلك بأنه مضاف إليه، وتعقبه بقوله: ليس كما قال لأن الحال قد يعمل فيها حروف الخفض إذا عملت في ذي الحال نحو مررت بزيد قائمًا، وفي كلا الكلامين بحث لا يخفى.
ومنع أبو حيان مجيء الحال من المضاف إليه في مثل هذه الصورة أيضًا وزعم أن الجواز فيها مما تفرد به ابن مالك والتزم كون {حَنِيفًا} حالًا من {مِلَّةَ} لأنها والدين بمعنى أو من الضمير في {أَتَّبِعُ} وليس بشيء ولم يتفرد بذلك ابن مالك بل سبقه إليه الأخفش وتبعه جماعة {وَمَا كَانَ مِنَ المشركين} بل كان قدوة المحققين وهذا تكرير لما سبق لزيادة تأكيد وتقرير لنزاهته عليه السلام عما هم عليه من عقد وعمل.
وقوله تعالى: {إِنَّمَا جُعِلَ السبت} بمعنى إنما فرض تعظيمه والتخلي للعبادة وترك الصيد فيه تحقيق لذلك النفي الكلي وتوضيح له بإبطال ما عسى يتوهم كونه قادحًا في الكلية فإن اليهود كانوا يزعمون أن السبت من شعائر الإسلام وأن إبراهيم عليه السلام كان محافظًا عليه أي ليس السبت من شرائع إبراهيم وشعائر ملته عليه السلام التي أمرت باتباعها حتى يكون بينه وبين بعض المشركين علاقة في الجملة، وإنما شرع ذلك لبني إسرائيل بعد مدة طويلة، وإيراد الفعل مبنيًا للمفعول جرى على سنن الكبرياء وإيذان بعدم الحاجة إلى التصريح بالفاعل لاستحالة الإسناد إلى الغير.
وقرأ أبو حيوة {جَعَلَ} بالبناء للفاعل، وعن ابن مسعود والأعمش أنهما قرءا {إِنَّمَا أَنزَلْنَا السبت} وهو على ما قال أبو حيان تفسير معنى لا قراءة لمخالفة ذلك سواد المصحف، والمستفيض عنهما أنهما قرءا كالجماعة إنما جعل السبت {على الذين اختلفوا فِيهِ} على نبيهم حيث أمرهم بالجمعة فاختاروا السبت وهم اليهود.
أخرج الشافعي في الأم والشيخان في صحيحيهما عن أبي هريرة قال: «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم نحن الآخرون السابقون يوم القيامة بيد أنهم أوتوا الكتاب من قبلنا وأوتيناه من بعدهم ثم هذا يومهم الذي فرض عليهم يعني الجمعة فاختلفوا فيه فهدانا الله تعالى له فالناس لنا فيه تبع اليهود غدًا والنصارى بعد غد»، وجاء عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قال: أمر موسى عليه السلام اليهود بالجمعة وقال: تفرغوا لله تعالى في كل سبعة أيام يومًا واحدًا وهو يوم الجمعة ولا تعملوا فيه شيئًا من أعمالكم فأبوا أن يقبلوا ذلك وقالوا: لا نريد إلا اليوم الذي فرغ الله تعالى فيه من الخلق وهو يوم السبت فجعل عليهم وشدد فيه الأمر ثم جاء عيسى عليه السلام بالجمعة فقالت النصارى: لا نريد أن يكون عيدهم بعد عيدنا فاتخذوا الأحد وكأنهم إنما اختاروه لأنه مبتدأ الخلق، واختار هذا الإمام وحمل {فِى} على التعليل أي اختلفوا على نبيهم لأجل ذلك اليوم، وقال الخفاجي: معنى {اختلفوا فِيهِ} خالفوا جميعهم نبيهم فهو اختلاف بينهم وبين نبيهم، وظاهر الإخبار يقتضي أنه عين لهم أولًا يوم الجمعة، وقال القاضي عياض: الظاهر أنه فرض عليهم تعظيم يوم الجمعة بغير تعيين ووكل إلى اجتهادهم فاختلفت أحبارهم في تعيينه ولم يهدهم الله تعالى له وفرض على هذه الأمة مبينًا ففازوا بفضيلته ولو كان منصوصًا عليه لم يصح أن يقال: {اختلفوا} بل يقال خالفوا، وقال الإمام النووي: يمكن أن يكونوا أمروا صريحًا ونص عليه فاختلفوا فيه هل يلزم تعيينه أم لهم إبداله فأبدلوه وغلطوا في إبداله، وقال الواحدي: قد أشكل أمر هذا الاختلاف على كثير من المفسرين حتى قال بعضهم: معنى اختلافهم في السبت أن بعضهم قال هو أعظم الأيام حرمة لأن الله تعالى فرغ من خلق الأشياء فيه، وقال الآخرون: أعظمها حرمة الأحد لأن الله سبحانه ابتدأ الخلق فيه؛ وهذا غلط لأن اليهود لم يكونوا فرقتين في السبت وإنما اختار الأحد النصارى بعدهم بزمان وقيل: المراد اختلفوا فيما بينهم في شأنه ففضلته فرقة منهم على الجمعة ولم ترض بها وفضلت أخرى الجمعة عليه ومالت إليها بناء على ما روي من أن موسى عليه السلام جاءهم بالجمعة فأبى أكثرهم إلا السبت ورضي شرذمة منهم بها فأذن الله تعالى لهم في السبت وابتلاهم بتحريم الصيد فيه فأطاع أمر الله تعالى الراضون بالجمعة فكانوا لا يصيدون وأعقابهم لم يصبروا عن الصيد فمسخهم الله تعالى قردة دون أولئك المطيعين، والتفسير الأول تفسير رئيس المفسرين وترجمان القرآن وحبر الأمة المروي من طرق صحيحة عن أفضل النبيين وأعلم الخلق بمراد رب العالمين صلى الله عليه وسلم {وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَحْكُمُ بَيْنَهُمْ} أي المختلفين {يَوْمَ القيامة فِيمَا كَانُواْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} أي يقضي بينهم بالمجازاة على اختلافهم على نبيهم ومخالفتهم له في ذلك أو يفصل ما بين الفريقين منهم من الخصومة والاختلاف فيجازى كل فريق بما يستحقه من الثواب والعقاب، وفيه على هذا إيماء إلى أن ما وقع في الدنيا من مسخ أحد الفريقين وإنجاء الآخر بالنسبة إلى ما سيقع في الآخرة شيء لا يعتد به، وعبر عن الفرض بالجعل موصولًا بكلمة {على} للإيذان بتضمنه للتشديد والابتلاء المؤدي إلى العذاب، وعن اليهود بالاسم الموصول بالاختلاف إشارة إلى علة ذلك، وقيل: المعنى إنما جعل وبال ترك تعظيم السبت وهو المسخ كائنًا أو واقعًا على الذين اختلفوا فيه أي أحلوا الصيد فيه تارة وحرموه أخرى وكان حتمًا عليهم أن يتفقوا على تحريمه حسبما أمر الله تعالى به وروي ذلك عن قتادة، وفسر الحكم بينهم بالمجازاة باختلاف أفعالهم بالإحلال تارة والتحريم أخرى.
ووجه إيراد ذلك هاهنا بأنه أريد منه إنذار المشركين وتهديدهم بما في مخالفة الأنبياء عليهم السلام من الوبال كما ذكرت القرية التي كفرت بأنعم الله تعالى تمثيلًا لذلك.
واعترض بأن توسيط ذلك لما ذكر بين حكاية أمر النبي صلى الله عليه وسلم باتباع ملة إبراهيم عليه السلام وبين أمره صلى الله عليه وسلم بالدعوة إليها كالفصل بين الشجر ولحائه.
وأجيب بأن فيه حثًا على إجابة الدعوة التي تضمنها الكلام السابق وأمر بها في الكلام اللاحق فللمتوسط نسبة إلى الطرفين تخرجه من أن يكون الفصل به كالفصل بين الشجر ولحائه وهو كما ترى.
واعترض أيضًا بأن كلمة {بَيْنَهُمْ} تحكم بأن المراد بالحكم هو فصل ما بين الفريقين من الاختلاف دون المجازاة باختلاف أفعالهم بالإحلال تارة والتحريم أخرى.
ويرد هذا أيضًا على تفسيره بالقضاء بالمجازاة على اختلافهم جميعهم على نبيهم ومخالفتهم له فيما جاءهم به، وقد فسر بذلك على التفسير المأثور عن ترجمان القرآن، ومنهم من فسره عليه بما فسر به على التفسير المروى عن قتادة فيرد عليه أيضًا ما ذكر مع ما في ضمنه من القول باختلاف الاختلافين بمعنى، والظاهر اتحادهما.
وأجاب بعضهم عن الاعتراض بمنع حكم كلمة {بَيْنَهُمْ} بما تقدم فتأمل، وتفسير السبت باليوم المخصوص هو الظاهر الذي ذهب إليه الكثير، وجوز كونه مصدر سبتت اليهود إذا عظمت سبتها، قيل: ويجوز على هذا أن يكون في الآية استخدام. اهـ.

.قال الشنقيطي:

{إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (120)}.
أثنى الله جل وعلا في هاتين الآيتين الكريمتين على نبيه إبراهيم عليه وعلى نبينا الصَّلاة والسلام: بأنه أمة. أي إمام مقتدى به، يعلم الناس الخير. كما قال تعالى: {إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا} [البقرة: 124]، وأنه قانت لله، أي مطيع له، وأنه لم يكن من المشركين، وأنه شاكر لأنعم الله، وأن الله اجتباه، اي اختاره واصطفاه، وأنه هداه إلى صراط مستقيم.
وكرر هذا الثناء عليه في مواضع أخر، كقوله: {وَإِبْرَاهِيمَ الذي وفى} [النجم: 37]، وقوله: {وَإِذِ ابتلى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا} [البقرة: 124]، وقوله: {وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِن قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ} [الأنبياء: 51]، وقوله: {وَكَذَلِكَ نري إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السماوات والأرض وَلِيَكُونَ مِنَ الموقنين} [الأنعام: 75]، وقوله عنه: {إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السماوات والأرض حَنِيفًا وَمَا أَنَاْ مِنَ المشركين} [الأنعام: 79]، وقوله: {مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلاَ نَصْرَانِيًّا وَلَكِن كَانَ حَنِيفًا مُّسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ المشركين} [آل عمران: 67]، وقوله: {وَإِنَّ مِن شِيعَتِهِ لإِبْرَاهِيمَ إِذْ جَاء رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} [الصافات: 83-84]. إلى غير ذلك من الآيات الكثيرة في الثناء عليه.
وقد قدمنا معاني الأمة في القرآن.
قوله تعالى: {وَآتَيْنَاهُ فِي الدنيا حَسَنَةً} الآية.
قال بعض العلماء: الحسنة التي آتاه الله في الدنيا: الذرية الطيبة، والثناء الحسن، ويستأنس لهذا بأن الله بين أنه أعطاه بسبب إخلاصة لله، واعتزاله أهل الشرك: الذرية الطيبة، وأشار أيضًا لأنه جعل له ثناء حسنًا باقيًا في الدنيا. قال تعالى: {فَلَمَّا اعتزلهم وَمَا يَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلًا جَعَلْنَا نَبِيًّا وَوَهَبْنَا لَهْمْ مِّن رَّحْمَتِنَا وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيًّا} [مريم: 49-50]، وقال: {وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ النبوة والكتاب} [العنكبوت: 27]، وقال: {واجعل لِّي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الآخرين} [الشعراء: 84].
{ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (123)}.
ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة: أنه أوحى غلى نبيَّنا صلى الله عليه وسلم الأمر باتباع ملة إبراهيم حنيفًا وما كان من المشركين.
وبين هذا أيضًا في غير الموضع كقوله: {قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي ربي إلى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا مِّلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ المشركين} [الأنعام: 161]، وقوله: {يا أيها الذين آمَنُواْ اركعوا واسجدوا وَاعْبُدُواْ رَبَّكُمْ وافعلوا الخير لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [الحج: 77]، إلى قوله: {مِّلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيم} [الحج: 78]. الآية، وقوله: {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ في إِبْرَاهِيمَ} [الممتحنة: 4]. الآية، إلى غير ذلك من الآيات، والملة: الشريعة، والحنيف: المائل عن كل دين باطل إلى دين الحق، وأصله من الحنف: وهو اعوجاج الرجلين. يقال: برجله حنف أي اعوجاج، ومنه قوله أمالأخنف بن قيس ترقصه وهو صبي:
والله لولا حنف برجله ** ما كان في فتيانكم من مثله

وقوله: {حنيفًا} حال من المضاف إليه. على حد قول ابن مالك في الخلاصة:
ما كان جزء ما له أضيفا ** أو مثل جزئه فلا تحيفا

لأن المضاف هنا وهو {ملَّة} كالجزء من المضاف إليه وهو {إبراهيم} لأنه لو حذف لبقي المعنى تامًا. لأن قولنا: أن أتبع إبراهيم، كلام تامُّ المعنى كما هو ظاهر، وهذا هو مراده بكونه مثل جزئه. اهـ.